Thursday, October 8, 2009

عبر صحفات جريده أويا -أغانينا القديمة‮ .. ‬حفر في‮ ‬ذاكرة حّية وبعث لتراث مجيد

اغانينا

اغانينا

مساء كل يوم أحد من كل أسبوع، وتحديداً على تمام الساعة 11:30 مساءً يطل علينا عبر أثير الإذاعة الليبية المسموعة، ضيف عزيز نشتاق إليه، وننتظر موعد إطلالته الخفيفة بفارغ الصبر.

يصافحنا بصوته الدافئ،... يؤانسنا بفواصله الشعرية المختارة بعناية والتى تعكس إحساساً مرهفاً، وذائقة أصيلة متمرسة،...يبحر بنا بعيداً صوب عوالم خالدة تعرفنا أكثر مما نعرفها، وتذكرنا ونحن نحاول تناسيها، تجذبنا إليها بسحرها البرّاق فنتصنّع الغفلة ونتظاهر بالتجاهل... يعيدنا إلى مرافئ خضراء اشتاقت مراكبنا، وحنّت إليها سواحلنا... يستفزّنا باستحضار لحظات أفلتت من مناديف الزمان، ونجت من مقصلة النسيان.

ليست هذه أحجية أو لغزاً أو "فزّورة"، فصاحب هذا الصوت غني عن التعريف، ويكفي أن أقول عنه: إنه أحد عشاق الأغنية الليبية حتى النخاع، وأحد المتيّمين بها حتى الوله، وأحد المكبرين لجهود روادها والمقدّرين لاجتهاد مبدعيها من شعراء وملحنين ومطربين، وكيف لا؟ وهو أحد هؤلاء الرواد الذين أسهموا- قدر المستطاع وحسب الطاقة- في بناء صرحها الشامخ وتوطيد أركانها المنيعة، بل وكان شاهداً على ولادة عدد من الأعمال التى صارت علامة فارقة في مسيرة الأغنية الليبية المظفّرة، ورفيقاً لعدد من الفنانين الذين شكّلوا منعطفاً ونقطة تحول في تاريخها.

صاحب هذا الصوت هو الفنان القدير والملحن المتمكن عمر رضوان ... ومن لم يعرف عمر رضوان نقول له: إن السيد عمر رضوان ملحن بارز ومهم، وهو من القلائل الذين درسوا الموسيقي دراسة علمية أكاديمية وفتنوا بها كهواية، لحّن عديد الأعمال التي كان لها صداها الطيّب خلال حقبة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضى.، لانزال نذكر منها أغنية المطرب الكبير "محمد السليني" "عارف أنا ماليش غير الذكرى" علاوة على أعمال آخرى تغنى بها عدد من المطربين ولكنها ولأسباب عدة لم تسطع النفاذ من جدار الصمت وحاجز العزلة الذي عانته أغانينا القديمة.

إن أهمية هذا البرنامج الرائع المفيد لاتكمن فيما يقدمه ويستعرضه من أعمال بل تكمن في الرسالة السامية التى آمن بها مقدمه وكرّس لها وقته وجهده،وأولاها اهتمامه وسعى حثيثاً إلى أدائها وإيصالها وتبليغها لكل المستمعين على اختلاف شرائحهم ومشاربهم. ألا وهي ربط الأجيال الفنية ببعضها، ووصلها بتراثها الحي النابض والمحافظة على تماسك الذائقة ونقائها وهي تنمو وتتطور بشكل طبيعي يواكب حركة الزمن، ويجاري إيقاع العصر، دون فجوات وانقطاعات قد تؤدي إلى تخريب الذائقة، وتدفع نحو تلوّث الإحساس وتبلّد الوجدان.

ولعل هذا المقصد النبيل والمطمح السامى الذي دفع بالسيد عمر رضوان إلى الحفر في الذاكرة الحية لا الذاكرة المتحجّرة وبعث التراث القريب ذي الفاعلية والحرارة وليس التراث المنقرض والقابع في المجاهل والسراديب المظلمة والباردة، أقول لعل هذا المقصد يتم تبنيه وتعميمه ليصبح منهجاً وآلية في تعاملنا مع التراث وفرزه وتصنيفه وغربلته تمهيداً لتوظيفه وإعادة قراءته وتأويله، لأن العودة إلى التراث الحي" وأشدد هنا على الحي "واستلهامه، وإتخاذه نقطة انطلاق وحجر أساس هو بداية الفهم الحقيقي للحداثة والإدراك العميق لمفهوم التطوير والتغيير، لأن التحديث لايأتي من فراغ والإبداع لايبدأ من نقطة الصفر.

وبقدر ما أسهم السيد عمر رضوان في إمتاعنا والتحليق بنا في فضاءات اللحن الآسر، والغناء الساحر، والنغم الشجي فإنه- وأكاد أجزم بذلك- قد تسبّب للكثيرين في " صدمة" ولكنها ليست صدمة حداثة على كل حال. إنها صدمة مفاجئة لجيل بل وأجيال لم تعش تلك المرحلة ولم تستمع لتلك الأعمال الرائدة إنها صدمة قد تنقلب لدى البعض إلى ما يشبه "الخيبة" إذ سرعان ماتحيلنا بشكل أو بآخر إلى الدخول في موازنة ومقارنة قد تكون غير عادلة بين أعمال الأمس وأعمال اليوم، بين أعمال تجاوز عمرها "50" عاماً وأعمال لم تمض على ولادتها "5" أيام أو أسابيع أو حتى شهور. وبالتأكيد ستفسر هذه المقارنة عن حقيقة تتنزّل منزلة المصادرة المؤلمة والمحرجة وهي أن الأغنية الليبية لم تتقدم خطوة واحدة إلى الأمام منذ عصر الرواد. ولم تخترق أو تتجاوز التخوم التى رسموها والخطوط التى وضعوها.

أما مانسمعه من دعاوى، وما يتردد من أقاويل تتحدث عن تطور للأغنية الليبية، وتتغنى بنجاحات "وهمية" حققتها الأغنية الليبية وفتوحات خيالية تمت على أيدى فرسانها المزعومين. فليست إلا كلاماً إنشائياً خطابياً لاتدعمه حجة ولايستند إلى دليل، مع كامل احترامنا وتقديرنا لكل الجهود المبذولة بصدق وإخلاص في سبيل تطوير أغنيتنا والعمل على أن تتبوأ مكانتها اللائقة، ومركزها المناسب.

فالأغنية الليبية ومنذ أكثر من عشرين عاماً دخلت طور الجمود التام وفقدت القدرة على التطور، لأنها افتقدت الأفق الذي تتطور فيه والمناخ الذي تنمو خلاله، ونعني أفق المنافسة ومناخ تكافؤ الفرص لدى المبدعين. ذلك أن المشهد الفني الليبي خلال هذه الفترة قد تحول إلى ما يشبه "الإقطاعيات" وظهر فيه ما يشبه المقاولين والسماسرة، والمضاربين الذين تفننوا في طمس المواهب وتسفيه القدرات، والتهوين من شأن كل مبدع ليبي وكل إنتاج ليبي، وهذا ماشجع أو ماغلّب نزعة الاجترار وقوّى إتجاه التقليد، وعمل على استحضار تراث ميت مصطنع لمجتمع منقرض وحياة مفترضة، لاوجود لها إلا في مخيلة أصحابها ، وأدى بالتالي إلى سيادة المفاهيم الماضوية والقيم السلفية التى تمجد الماضي وتعظم رجالات الماضي، وتحتقر الحاضر وتبخس منجزاته وتتبرأ من مثله وقيمه بل وتذهب إلى حد التشاؤم من المستقبل بدل الانحياز له والمراهنة عليه.

No comments: